فصل: (فرع: إذن المرتهن للراهن في بيع الرهن)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: توكيل الراهن للمرتهن ثم رجوعه]

وإن أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق، أو في الهبة والإقباض، فوهب وأقبض، ثم رجع عن الإذن بعد العتق والهبة.. لم يبطل العتق والهبة؛ لأنهما قد صحا. وإن رجع المرتهن عن الإذن قبل العتق والهبة، ثم أعتق الراهن، أو وهب بعد علمه بالرجوع عن الإذن.. لم يصح العتق والهبة؛ لأن بالرجوع يسقط الإذن، فصار كما لو لم يأذن، وإن أعتق أو وهب بعد الرجوع، وقبل علمه به.. فهل يصح العتق والهبة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل، وقبل علمه به.
وإن اختلفا: فقال المرتهن: أعتقت بعد رجوعي. وقال الراهن: بل أعتقت قبل رجوعك.. قال ابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل بقاء الرهن.

.[فرع: إذن المرتهن للراهن في بيع الرهن]

وإن أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن، فباعه.. نظرت:
فإن كان بعد حلول الدين، فباع.. صح البيع، وتعلق حق المرتهن بالثمن؛ لأن مقتضى الرهن أن يستوفي الحق من ثمنه بعد حلوله، ولأن بيع الرهن بعد حلول الدين حق للمرتهن يستحقه على الراهن، بدليل: أن الراهن لو امتنع عن ذلك.. أجبر عليه، فإذا كان مستحقا.. فقد أذن فيما استحق.
وإن كان الدين مؤجلا، فإن كان الإذن من المرتهن مطلقا، فباع الراهن.. صح البيع، وانفسخ الرهن، ولم يتعلق حق المرتهن بالثمن، وبه قال أبو يوسف.
قال أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله: (يكون الثمن رهنا إلى أن يحل الحق).
دليلنا: أنه تصرف في عين الرهن لا يستحقه المرتهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. سقط حقه من الوثيقة، كالعتق.
فقولنا: (في عين الرهن) احتراز من العقد على منافع الرهن.
وقولنا: (لا يستحقه المرتهن) احتراز من البيع بعد حلول الحق.
قال في "الأم" [3/128] (فإن قال المرتهن: إني أردت بإطلاق الإذن أن يكون الثمن رهنا مكانه.. لم يلتفت إلى قوله، وحمل إذنه على الإطلاق، ولا تؤثر الإرادة فيه).. وإن أذن له في البيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا، فباعه. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون ثمنه رهنا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم؛ لأنه لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا أخرى مكان هذا الرهن.. لصح ذلك، فكذلك إذا اشترط كون الثمن رهنا، ولأنه لو أذن له بعد المحل بالبيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا إلى أن يوفيه الحق.. جاز، فكذلك إذا شرط ذلك قبل المحل.
والقول الثاني: أن البيع لا يصح؛ لأنه بيع بشرط مجهول؛ لأن الذي يباع به الرهن من الثمن مجهول، فلم يصح، كما لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا مجهولة.
وإن أذن له في البيع، بشرط أن يعجل له حقه، فباعه.. فالمنصوص: (أن البيع باطل).
وقال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم: (يصح، ويكون ثمنه رهنا، ولا يجب التعجيل).
وقال أبو إسحاق: إذا قلنا في المسألة قبلها إذا أذن له بشرط أن يكون الثمن رهنا: إن ذلك يصح.. كان هاهنا مثله.
دليلنا: أنه أذن له بشرط، فإذا لم يثبت له الشرط.. لم يصح الإذن، كما لو شرط في البيع شرطا لم يثبت.. فإن البيع لا يصح.
وإن اختلف الراهن والمرتهن: فقال المرتهن: أذنت لك بشرط أن تعطيني حقي. وقال الراهن: بل أذنت لي مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول المرتهن، فكذلك إذا اختلفا في صفته، ولأن الأصل صحة الرهن، والراهن يدعي ما يزيله ويبطله، فلم يقبل قوله.

.[مسألة: مؤنة الرهن على الراهن]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وعليه مؤنة رهونه، ومن مات من رقيقه.. فعليه كفنه). وهذا كما قال: يجب على الراهن ما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف. وإن كان عبدا فمات.. فإن عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه». وهذا من غرمه ولما روى الشعبي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها وحملها»، ولأنه ملكه، فوجب أن تكون نفقته عليه، كما لو لم يكن مرهونا، وإن كان الرهن مما يحتاج إلى موضع يكون فيه، مثل: أن يكون حيوانا يحتاج إلى إصطبل، أو متاعا يحتاج إلى بيت يكون فيه عند العدل.. فإن ذلك يكون على الراهن، وكذلك أجرة حافظه على الراهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب ذلك على المرتهن).
دليلنا: أن ذلك من مؤنة الرهن، فكان على الراهن، كالنفقة.
فإن كان الراهن حاضرا.. كلف أن يكتري موضعا لذلك. وإن امتنع من ذلك.. أخذ الحاكم لذلك من ماله. وإن كان معسرا، فإن أنفق المرتهن بغير إذنه.. كان متطوعا. وإن أنفق بإذن الراهن ليرجع به عليه.. رجع به عليه إذا أيسر. وإن أنفق بإذنه ليكون دينا عليه، ويكون الرهن رهنا به وبالدين.. ففيه طريقان، كالعبد إذا جنى وفداه المرتهن بإذن الراهن ليكون دينا عليه، ويكون العبد مرهونا به وبالدين.
وإن كان الراهن غائبا.. رفع الأمر إلى الحاكم، فإن كان للراهن مال.. أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال، فإن أنفق المرتهن بإذن الحاكم.. رجع به على الراهن، وإن أنفق عليه بغير إذن الحاكم مع القدرة عليه.. كان متطوعا، ولم يرجع. وإن لم يقدر على إذن الحاكم، فأنفق.. فهل يرجع بما أنفق؟ فيه وجهان، كما نقول في الجمال إذا هرب وأنفق المكتري. فإن جني على الرهن، واحتاج إلى مداواة.. كانت المداواة على الراهن، وكذلك إن أبق.. فأجرة من يرده على الراهن.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت قيمة الرهن كقدر الدين.. فالمداواة على المرتهن، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين.. فأجرة المداواة على الراهن والمرتهن بالقسط على المرتهن بقدر حقه، والزيادة على الراهن). وكذا قال في أجرة من يرده: (تكون بقدر الأمانة على الراهن، وبقدر الضمان على المرتهن).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه». وهذا من غرمه، ولأنه من مؤنة الرهن، فكان على المالك، كالنفقة، والكسوة.
وإن مرض الرهن واحتاج إلى دواء.. فإن الراهن لا يجبر عليه؛ لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه، وقد يبرأ بغير علاج، بخلاف النفقة عليه؛ لأنه لا يبقى من غير نفقة.

.[مسألة: جناية العبد المرهون]

وإن جنى العبد المرهون.. لم يخل: إما أن يجني على أجنبي، أو على سيده، أو على من يرثه سيده، أو على عبد سيده.
فإن جنى على أجنبي أو أتلف له مالا.. تعلق حق الجناية وغرم المال في رقبته، وكان مقدما على حق المرتهن؛ لأن حق المجني عليه يقدم على حق المالك، فلأن يقدم على حق المرتهن أولى، ولأن أرش الجناية تعلق برقبة العبد بغير اختيار المجني عليه، وحق المرتهن تعلق برقبة العبد باختيار المرتهن، والحق المتعلق بغير اختيار من له الحق آكد من الحق الذي يثبت له اختياره، كالميراث، والبيع، ألا ترى أن ما ملكه بالميراث.. ملكه بغير اختياره؟ فلذلك لم يلحقه الفسخ، وما ملكه بالبيع.. ملكه باختياره؟ فلذلك يلحقه الفسخ.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية عمدا على النفس، فاقتص منه الولي.. بطل الرهن. وإن كانت عمدا فيما دون النفس، واقتص منه المجني عليه.. بقي الرهن في الباقي. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدا، وعفا المجني عليه على مال، فإن لم يختر السيد أن يفديه.. بيع العبد في الجناية إن كان الأرش يستغرق قيمته، وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته.. بيع منه بقدر أرش الجناية، وكان الباقي منه رهنا. إلا أن يتعذر بيع بعضه فيباع جميعه، ويكون ما بقي من الثمن عن قدر الأرش رهنا، وإن فداه السيد أو أجنبي، أو أبرأه المجني عليه من حقه.. كان العبد رهنا؛ لأن الجناية لم تبطل الرهن، وإنما قدم الأرش على حق المرتهن، فإذا سقط حق المجني عليه.. بقي الرهن كما كان، كما قلنا في حق المرتهن والمالك. وإن فداه المرتهن بغير إذن الراهن.. لم يرجع عليه بما فداه به. وإن فداه بإذنه ليرجع به عليه.. رجع به عليه. وإن فداه بإذنه، ولم يشترط الرجوع.. فهل يرجع به عليه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الجراح. وإن فداه على أن يرجع بما فداه به، ويكون العبد رهنا به وبالدين الأول، ورضي السيد بذلك.. رجع على السيد بما فداه به، وهل يكون العبد رهنا بما فداه به؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا جنى العبد المرهون.. كان ضمان الجناية على المرتهن، فإن فداه..كان العبد مرهونا كما لو كان، ولا يرجع بالفداء. وإن بيع في الجناية، أو فداه السيد.. سقط دين المرتهن إن كان قدر الفداء أو دونه). وبنى هذا على أصله: أن الرهن مضمون على المرتهن، فتكون جنايته مضمونة عليه،
كالغصب. والكلام معه في ذلك يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإن جنى العبد المرهون على سيده: فإن كانت على ما دون النفس.. نظرت:
فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه بها إن كانت مما يثبت بها القصاص؛ لأن القصاص جعل للزجر، والعبد أحق بالزجر عن سيده. ولا يلزم قطع العبد بسرقة مال سيده؛ لأن القطع إنما يجب بسرقة مال لا شبهة له فيه، وللعبد شبهة في مال سيده. فإن أراد السيد أن يعفو عنه على مال.. فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه لا يثبت له المال). وقال أبو العباس: يثبت له المال، ويستفيد به ببيعه في أرش الجناية وإخراجه من الرهن؛ لأن كل من ثبت له القصاص على شخص.. ثبت له العفو عنه على مال، كغير السيد.
ووجه المذهب: أن السيد لا يثبت له على عبده مال ابتداء. ولهذا لو أتلف له مالا.. لم يثبت له في ذمته بدله. ودليل أبي العباس يبطل بعبده الذي ليس بمرهون.
وإن جنى على سيده خطأ فيما دون النفس.. كانت هدرا على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعلى قول أبي العباس يتعلق الأرش برقبته.
وإن جنى العبد المرهون على من يرثه سيده: إما على أبيه، أو ابنه، أو مكاتبه.. نظرت:
فإن كانت الجناية عمدا فيما دون النفس.. فللمجني عليه أن يقتص منه.
وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا المجني عليه على مال.. ثبت المال للمجني عليه؛ لأنه أجنبي منه.
وإن مات المجني عليه قبل القصاص، والجناية عمدا، وكانت الجناية على النفس، وكان وارثه هو السيد، أو عجز المكاتب.. فللسيد أن يقتص منه أيضا. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يثبت له المال على عبده، كما كان يثبت لموروثه؛ لأن الاستدامة أقوى من
الابتداء، فجاز أن يثبت له على ملكه المال في الاستدامة دون الابتداء. وقال القفال: يبنى على وقت وجوب الدية، وفيها قولان:
أحدهما: تجب بعد موت المقتول في ملك الورثة؛ لأنها بدل نفسه، فلا تجب في حياته.
فعلى هذا: لا يثبت للسيد المال، كما لو أتلف له مالا.
والثاني: تجب في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول، ثم تنتقل إلى ورثته؛ لأنه يقضى منها دينه، وينفذ منها وصاياه.
فعلى هذا: هل يثبت للسيد المال؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيمن جنى عليه عبد غيره، ثم ملكه المجني عليه.. فهل يستدام عليه وجوب الأرش؟ فيه وجهان.
وإن قتل العبد المرهون سيده عمدا.. فلوارثه أن يقتص منه، كما كان للسيد أن يقتص منه. فإن أراد الوارث أن يعفو عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فهل يثبت لهم المال؟ ذكر الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق: أنها على قولين:
أحدهما: لا يثبت للوارث المال؛ لأن الوارث قائم مقام السيد، فلما لم يثبت للسيد المال في هذه الجناية.. لم يثبت لمن يقوم مقامه.
والثاني: يثبت للوارث المال؛ لأنه يأخذ المال عن جناية حصلت في غير ملكه، فصار كما لو جنى على من يرثه السيد.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: هذان القولان مبنيان على وقت وجوب الدية:
فإن قلنا: إنها وجبت في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. لم تثبت الدية للوارث؛ لأنها وجبت لسيده.
وإن قلنا: إنها وجبت بعد موته في ملك الورثة.. ثبتت الدية للوارث؛ لأنها تثبت لغير مولاه بالجناية. وهذه طريقة القفال.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنها إذا وجبت بعد موت السيد، فقد وجبت لهم على ملكهم، بل القولان أصل بأنفسهما غير مبنيين على غيرهما.
أصحهما: أنه لا يثبت المال للوارث.
وإن جنى العبد المرهون على عبد لسيده: فإن كان العبد المجني عليه غير مرهون.. فهو كما لو جنى على سيده، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا يقتص منه بابنه. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. لم يثبت له المال على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويثبت له على قول أبي العباس.
وإن كان العبد المقتول مرهونا.. نظرت:
فإن كان مرهونا عند مرتهن آخر، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص من القاتل، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا قصاص له، إذا اقتص السيد.. بطل الرهنان. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وعفا السيد على مال.. ثبت المال لأجل المرتهن الذي عبده المقتول، لا لأجل السيد؛ لأن السيد لو قتل هذا العبد.. لثبت عليه المال، فإذا قتله عبده.. كان أولى أن يثبت عليه المال. وإن عفا السيد عنه عن جناية العمد على غير مال، أو مطلقا.. فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. لم يثبت له المال. وإن قلنا: إن موجبه القود، أو الدية.. ثبتت قيمة العبد المقتول في رقبة القاتل؛ لأن العفو عنها إبراء، ولا يصح إبراء السيد منها؛ لأجل حق المرتهن للمقتول.
فإذا تعلقت قيمة المقتول في رقبة القاتل، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول.. بيع من القاتل بقدر قيمة المقتول، وجعل ذلك رهنا عند مرتهن المقتول، وكان الباقي من رقبة القاتل رهنا عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه.. بيع جميعه، وكان قدر قيمة المقتول من ثمن القاتل رهنا عند مرتهن المقتول، وما زاد على ذلك مرهونا عند مرتهن القاتل. وإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول، أو أقل.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينقل القاتل إلى يد مرتهن المقتول رهنا، وينفك من رهن مرتهنه؛ لأنه لا فائدة في بيعه.
والثاني: يباع؛ لأنه ربما رغب فيه راغب، فاشتراه بأكثر من قدر قيمة المقتول، فتكون الزيادة على قدر قيمة المقتول رهنا عند مرتهن القاتل.
وإن كان العبدان القاتل والمقتول مرهونين عند رجل واحد، فإن كانت الجناية عمدا. فللمولى أن يقتص منه، فإن اقتص.. بطل الرهنان. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا عنه على مال.. نظرت:
فإن رهنا بحق واحد.. كانت الجناية هدرا؛ لأن جميع الدين متعلق برقبة كل واحد منهما، فإذا قتل أحدهما.. بقي الحق متعلقا بالآخر.
وإن كان كل واحد منهما مرهونا بحق منفرد.. نظرت:
فإن كان أحدهما مرهونا بحق معجل، والآخر مرهونا بحق مؤجل.. بيع القاتل بكل حال؛ لأنه إن كان دين المقتول معجلا.. بيع القاتل ليستوفي دينه المعجل، وما بقي منه.. كان رهنا بدينه المؤجل.
وإن كان دين القاتل معجلا.. يبع ليستوفي منه المعجل، وما بقي.. كان مرهونا بدين المقتول.
وإن اتفق الدينان بالحلول والتأجيل.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن تكون قيمتهما سواء، والحقان سواء، مثل: أن يكون قيمة كل واحد منهما مائة، وكل واحد منهما مرهونا بمثل ما رهن به الآخر، أو من جنس قيمته، مثل قيمة ما رهن به الآخر، فإن الجناية هاهنا هدر؛ لأنه لا فائدة في بيعه ولا في نقله.
قال أبو إسحاق: إلا أن يكون الدين الذي رهن به المقتول أصح وأثبت من دين القاتل، مثل: أن يكون دين المقتول مستقرا، ودين القاتل عوض شيء يرد بعيب، أو صداقا قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينقل إليه؛ لأن في نقله غرضا للمرتهن.
والثاني: لا ينقل؛ لأنهما سواء في الحال.
فإذا قلنا: ينقل.. فهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل العبد من غير بيع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
المسألة الثانية: أن يختلف الحقان، وتتفق القيمتان، بأن كانت قيمة كل واحد منهما مائة، وأحدهما مرهون بمائتين، والآخر مرهون بمائة، فإن كان ما رهن به القاتل أكثر.. لم ينقل؛ لأنه لا فائدة في نقله، وإن كان ما رهن به المقتول أكثر.. نقل؛ لأن في نقله فائدة، وهو: أن يصير مرهونا بأكثر مما هو مرهون به، وهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل من غير بيع؟ على الوجهين.
المسألة الثالثة: أن يتفق الحقان، وتختلف القيمتان، بأن يكون كل واحد منهما مرهونا بمائة، وقيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، فإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم ينقل القاتل؛ لأنه مرهون بمائة، وإذا نقل كان مرهونا بمائة، فلا فائدة في ذلك.
وإن كانت قيمة القاتل أكثر.. بيع منه بقدر قيمة المقتول؛ ليكون رهنا بدين المقتول، ويبقى نصفه رهنا بدينه.
قال ابن الصباغ: وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه.. صار مرهونا بالدينين معا.

.[فرع: إقرار العبد المرهون جائز]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإقرار العبد المرهون فيما فيه قصاص جائز، كالبينة، وما ليس فيه قصاص.. فباطل). وهذا كما قال: إذا أقر العبد على نفسه بجناية عمد توجب القصاص.. قبل إقراره مرهونا كان أو غير مرهون؛ لأنه لا يتهم في ذلك، ويكون المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو على مال، فيكون كما لو قامت عليه البينة على ما مضى. وإن أقر المولى عليه بذلك.. لم يصح إقراره؛ لأنه يقبل فيه إقرار العبد، فلم يقبل فيه إقرار السيد، كإقراره عليه بالزنا.
وإن أقر العبد بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. لم يقبل في حق السيد؛ لأنه متهم في ذلك، وليكون الغرم متعلقا بذمته، فإن أعتق وأيسر.. طولب به؛ لأنا إنما منعنا من قبول إقراره في حق السيد، وقد زال حق السيد، فثبت إقراره، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما ليس فيه قصاص.. فباطل)، يعني: في حق سيده. وإن أقر المولى عليه بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. صح إقراراه؛ لأنه لما لم يصح إقرار العبد به.. صح إقرار المولى به، كجناية العمد، لما لم يقبل فيه إقرار السيد.. صح فيه إقرار العبد، ولأنه لا تهمة على السيد في ذلك.

.[مسألة: أمر السيد عبده المرهون بجناية]

وإن أمر السيد عبده بالجناية على غيره، فجنى عليه، فإن كان العبد بالغا عاقلا، أو مراهقا مميزا يعلم أن طاعة المولى لا تجوز في المحرمات.. نظرت:
فإن لم يكرهه السيد على القتل.. فحكمه حكم ما لو جنى بغير أمره، إلا القصاص، فإنه لا يجب على من لم يبلغ، ولا يلحق السيد بذلك إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله».
وإن أكرهه المولى على القتل.. وجب على السيد القود إن كانت الجناية عمدا، والمجني عليه ممن يستحق القود على المولى، أو الدية إن عفا عنه، كما لو جنى السيد عليه بيده، وهل يجب القود على العبد إن كان بالغا عاقلا؟ فيه قولان.
فإن قلنا: يجب عليه القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتلهما، وبين أن يقتل السيد، ويستحق نصف الدية في رقبة العبد، أو يقتل العبد، ويستحق في ذمة السيد نصف الدية، وبين أن يعفو عنهما على مال، فيستحق في ذمة السيد نصف الدية، وفي رقبة العبد نصفها.
وإن قلنا: لا يجب القود على العبد.. تعلق برقبته نصف دية المقتول، ثم الولي بالخيار: بين أن يقتل السيد، وبين أن يعفو عنه على مال، ويستحق في ذمته نصف الدية.
وإن كان العبد صغيرا غير مميز، أو أعجميا غير عارف بأحكام المسلمين، يعتقد أن طاقة المولى تجوز في المحرمات.. فإن الجاني هو السيد؛ لأن العبد كالآلة له، فإن كان السيد موسرا.. أخذ منه الأرش، وإن كان معسرا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان العبد صبيا، أو أعجميا، فبيع في الجناية.. كلف السيد أن يأتي بمثل قيمته تكون رهنا مكانه). واختلف أصحابنا في هذا:
فمنهم من قال: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك: إن كانت الجناية توجب المال، وكان السيد معسرا.. فإن العبد يباع في الجناية، ثم إذا أيسر السيد.. أخذت منه قيمة العبد، وجعلت رهنا مكانه؛ لأن السيد وإن كان هو الجاني، إلا أن العبد هو الذي باشر الجناية، فبيع فيها عند تعذر أخذ الأرش من السيد.
ومنهم من قال: لا يباع العبد، وهو المذهب؛ لأن الجاني هو السيد، والعبد آلة له، فلم يبع فيها، كما لو رهن سيفا، فقتل به إنسانا.. لما وجب بيعه؛ لأنه باشر الجناية ليبع فيها وإن كان السيد موسرا.
وأما ما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فله تأويلان:
أحدهما: أن تكون البينة قد شهدت على العبد أنه جنى، فقال السيد: أنا أمرته بذلك، فأنكر المجني عليه الأمر، فإن قول السيد لا يقبل في حق المجني عليه، ويباع العبد في الجناية، ويقبل إقرار السيد في حق المرتهن، فيجب عليه القيمة.
والثاني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فبيع في الجناية). وليس هذا أمرا منه بالبيع له، وإنما أراد: إذا باعه الحاكم باجتهاده؛ لأن ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.